مئويّة أسفار عبد البهاء
مشارق الأنوار
مقدمة:
في مساء يوم ١٧ سبتمبر/ أيلول ١٩١١ توجه حضرة عبد البهاء إلى كنيسة يوحنا اللاهوتي ب- “وست مينيستر” بناء على دعوة رئيس أساقفة الإبراشية “ويلبر فورس” وخاطب جمهورها بعد قدّاس المساء. وقام الآسقف بنفسه بتقديم ضيفه إلى الحاضرين قائلاً إن رسولاً من الشرق قد عبر البحار وجاب الأقطار منادياً بدعوة السلام والاتحاد التي من أجلها قضى أربعين عاماً في الأسر والاضطهاد، وفي نهاية الحديث ركع رئيس الأساقفة ليباركه عبد البهاء ثم عقب الأسقف على أحداث ذلك المساء مصرحاً: ”حقاً في هذا المساء قد التقى الشرق والغرب في هذا المكان“*1*.
كان هذا ثاني خطاب لحضرة عبد البهاء في مدينة لندن أثناء أسفاره في أوروپا خلال صيف وخريف ١٩١١، وكما يذكر قراء هذا الموقع كان الخطاب العام الأول لحضرته في لندن عن وحدة العالم الإنساني، حيث أعلن أن تحقيق التوحيد الكامل للإنسانية يستلزم عدة خطوات من بينها التوحيد للأفكار وشبّه هذه الخطوات بسبعة شموع تضيء بالتدريج آفاق العالم المظلمة وسردها كالتالي:
”…أمّا في الحال الحاضرة فقد تعدّدت وسائل الاتّصال وفي الحقيقة أصبحت القارّات الخمس في حكم قارة واحدة… وعلى هذا المنوال أصبح كل أعضاء الأسرة البشريّة، مللاً وحكومات ومدن وقرى، تعتمد بعضها على بعض، ولم يعد أحد في غنى عن الآخر، فالرّوابط السياسيّة موجودة بين الجميع، والارتباط الاقتصاديّ والتّجاريّ والصّناعيّ والزّراعيّ والعلميّ قد ازداد إحكاماً كما هو مشهود. ولهذا فإن اتفاق جميع العالم الإنساني في هذا اليوم ممكن الحصول، وهذه الأسباب هي من معجزات هذا العصر المجيد والقرن العظيم التي حُرمت منها القرون الماضية لأن هذا القرن، قرن الأنوار، منفرد بمجد ونورانية وجلال لا نظير لها، لذا يظهر فيه كل يوم إعجاز جديد، وفي عاقب الأيام ستُرى أنوار شموعه ساطعة في المجامع البشرية، كما يرى اليوم مقدّم أنوارها في آفاق العالم المظلمة:
أولى الشموع هي الوحدة في العالم السياسي التي يبدو الآن بصيصاً منها، وثاني الشموع وحدة الآراء في المشاريع العالميّة وعن قريب ستظهر آثارها، وثالث الشموع الوحدة في الحرية التي ستتحقق بكل تأكيد، ورابع الشموع الوحدة في الدّين وهي أسّ الأساس نفسه وسيظهر سناها جلياً في العالم بقوة إلهية، وخامس الشموع الوحدة الوطنيّة التي ستتأسس في هذا القرن بكل تأكيد فيرى جميع سكان العالم أنفسهم أهل وطن واحد، وسادس الشموع الوحدة في الأعراق التي ستجعل كل سكان الأرض كما لو كانوا أبناء عشيرة واحدة وأفراد جنس واحد، وسابع الشّموع الوحدة في اللسان أي اختيار لغة عموميّة يتعلمها ويتخاطب بها كل الأنام. جميع هذه الأمور ستتحقق قطعاً طالما أن القوة الملكوتية تآزرها وتؤيدها…“*2*
هذه الكلمات واضحة في تأكيدها على أن خطوات توحيد الإنسانية لابد أن تشمل تغييراً متدرجاً إذا كان من المقدر لها أن تؤدي إلى وحدة تامة ودائمة. وهذا الخطاب الثاني يعطي الانطباع بأن حضرته يتابع موضوع خطابه الأول مضيفاً إليه أحد معالم هذا التوحيد المتدرج للأفكار حول مسألة خلافية تنبني عليها كثير من المواقف التي يتخذها الإنسان، وكانت مثار عداوت عديدة بين الملل في السابق، فقسّمت الفكر البشري من قديم الزمان ولازالت تشتت الأفكار في زماننا وتثير خلافاً حاداً بين أتباع الأديان والمنكرين لها الذين اصطُلِحَ على تسميتهم بالملحدين أو بالدهريين.
ويثبت هذا الخطاب أيضاً لأطراف النزاع أياً كانت مواقفهم الاعتقادية بأن الألوهية لا تجوز أن تكون موضعاً للجدل لأنها على كل حال خارجة عن نطاق المدارك البشرية، الحسية منها والعقلية على السواء. فكل ما يتصوره الإنسان عن الألوهية سواء كان بالإثبات أو النفي هو من صنع خياله ولا توجد بينه وبين الحقيقة الإلهية أي نسبة أو صلة، وكل الفرقاء في ذلك الوهم شركاء والأحرى بهم أن يغيروا مواقفهم ويقبلوا الحقيقة الجلية التي يلتقي فيها المنقول والمعقول المستمد من قوانين الطبيعة، ألا وهو قصور الإدراك الإنساني عن بلوغ حما الحقيقة الألوهية إلاّ بوسيط. وفي ذلك حسم للخلاف المشتت للفكر ووفاق على ما بيّنه عبد البهاء في خطابه أن الله يظهر صفاته ومشيئته بواسطة مرسليه وأصفيائه الذين تنعكس على مرآة قلوبهم الطاهرة صور الكمالات والصفات الملكوتية فيفصحون عنها بالقدر الملائم لمدارك البشر ودرجات معرفتهم في الأزمنة المختلفة.
وعلى الرغم من عمق هذا الموضوع فإن عبد البهاء قد لطّف من مستواه الفلسفي ليكون في متناول مستويات الفكر المختلفة من دون حصره في حجج المنقول وحده أو بيّنات المعقول وحده وفي هذا ما يتلاءم واحتياجات البشر في هذا الزمان لبلوغ الحقيقة بعيداً عن التعقيد والتكلف أو الإسفاف.
مما توحيه خلاصة هذا الخطاب أن هناك دواع لإعادة النظر في الفهم التقليدي للأديان والتي لم تمسّ غير سطح تلك الموارد الغنية بالحقائق المعنوية. إن الفهم التقليدي اكتفى من أساليب البيان والمجاز التي زخرت بها الكتب السماوية السابقة بمعانيها المباشرة وتوسّع في شرح ألفاظها. أمّا اليوم فهناك وعي جديد يدعو إلى بذل محاولات جادة لاستطلاع معان أعمق للدين لازالت كامنة في مضمون الرسالات الإلهية، بشرط الاعتماد في ذلك على المعارف والعلوم المتوفرة لأجيالنا الحاضرة، ولنا أسوة حسنة في النجاح الذي أحرزه تجديد العلم الحديث.